في قلب قعفور، حيث كانت الثقافة تنبض في كل زاوية، باتت المدينة اليوم تعيش حالة من الجمود الثقافي. دار الثقافة مغلقة، ودار الشباب خارج الخدمة، بينما تحولت قاعة السينما إلى أنقاض مهجورة تُطرح تساؤلات: هل كان ما حدث مجرد مصادفة، أم أن هناك قرارًا خفيًا بإطفاء شعلة الثقافة؟
ذاكرة حضارية على هامش النسيان
عند مدخل المدينة، يقف باب خشبي قديم تعلوه لافتة باهتة، تدعو العابرين لاكتشاف بقايا “Petit Paris” الذي كان يُعرف به قعفور منذ عهد الاستعمار الفرنسي. منذ عام 1907، ترك الاستعمار بصمته على عمارتها، حيث تصطف المنازل بقرميد أحمر، وتحتضن محطة القطارات، وقاعة السينما العريقة، والكنيسة التي تحولت لاحقًا إلى دار الشعب ثم دار الثقافة، قبل أن تلتهمها النيران. فبقي الهيكل الخارجي شاهدًا صامتًا على مدينة كانت يومًا ما منارة للحضارة وملتقى حضاريًا يربط الشمال بالعاصمة.
قاعة السينما: ذاكرة مدينة منسية
في شارع “بنت الخط رقم 6″، تقف قاعة السينما كأيقونة لعصر ذهبي انقضى. بُنيت بين 1935 و1937 على مساحة 450 مترًا مربعًا، وقدمت أكثر من 200 فيلم، كان أولها Le Hibou. لم تقتصر خدماتها على العروض السينمائية فحسب، بل احتضنت أيضًا مسرحيات قُدمت على خشبتها قبل أن تصل إلى العاصمة. يمثل هذا المبنى أحد مكونات الحي العمالي الذي شُيّد في بدايات القرن العشرين مع انتصاب الحماية الفرنسية، وتوسع الأنشطة المنجمية، ومد الخط الحديدي بين تونس ومنجم الجريصة والأخوات. صُمم الحي لاستضافة الجالية الفرنسية، وتضمن إلى جانب المنازل ملعبًا لكرة المضرب، وكنيسة، وقاعة للسينما. وبعد الاستقلال، انتقلت ممتلكات الشركة الفرنسية Bon Guelma، التي كانت تستغل الخط الحديدي، إلى الدولة التونسية، واستُخدمت القاعة من قِبل نوادي السينما من شباب وطلبة المدينة، لتصبح منبرًا ينمي الحس النقدي والسياسي حتى التسعينيات، عندما بدأ الخناق يُقيد الأنشطة الثقافية.
اليوم، وعلى الرغم من أن بابه الخشبي البني لا يزال يحمل عبارة “Cinéma” بالفرنسية، فإن القاعة التي كانت منارة لعشاق الفن السابع قد أغلقت أبوابها في التسعينيات، وظلت تجهيزاتها وآلة العرض الفريدة صامدة أمام الزمن. إلا أن الفراغ الذي خلفته تحول إلى مساحة مهجورة، محظورة على الفنانين والشباب الذين يحلمون بإحيائها، وكأنها مرآة تعكس واقع قعفور الثقافي المتداعي.
مشاريع ثقافية معطلة بلا تفسير
فيما يتعلق بمشروع دار الثقافة، فقد أفاد معز الوسلاتي، الرئيس السابق للبلدية، أن الخطة كانت على وشك التنفيذ قبل الثورة، لكن عوامل عدة مثل نقص التمويل، التعقيدات العقارية، وغياب الإرادة السياسية حالت دون انطلاقها. ففي عام 2017، تم إسناد الصفقة إلى مقاول، إلا أن وفاته أجبرت الولاية على إعادة طرح العروض. وبعد تغطية إعلامية أثارت قلق المجتمع، تدخلت الوزارة سريعًا لتوفير تمويل إضافي بقيمة 1.3 مليار مليم، مما أعاد بعض آمال الإحياء. إلا أن خلافات التصميم الهندسي للبنية التحتية أدت إلى تجميد المشروع مرة أخرى، حتى توقف العمل نهائيًا بعد حل المجلس البلدي، فيما يبدو أن الخطة الآن تتجه نحو فسخ الصفقة مع المقاولة. ولم يكن هذا التوقف الوحيد، فقد واجهت دار الشباب مصيرًا مشابهًا. أكد فادي المحواشي أستاذ تربية مسرحية والباحث في علوم التراث أنه في عام 2016، أعلنت السلطات إغلاقها بحجة أنها أصبحت آيلة للسقوط، مما أفقدها وظيفتها كمركز للتعبير والإبداع. ورغم بدء بعض جهود الترميم لإعادة تأهيلها وتحديث مرافقها، توقفت تلك الجهود مجددًا دون تحقيق أي تقدم ملموس. هذا التوقف المتكرر عن تقديم خدمات ثقافية أساسية يعكس حالة من الجمود الإداري والبيروقراطية التي تحول دون إنعاش الفضاءات الحيوية، مما يترك الشباب بلا منصات للتعبير عن إبداعاتهم وطموحاتهم.
من المسؤول؟
تبقى المشاريع الثقافية معلقة والمنشآت مغلقة، فيمـــا يعيش شباب قعفور حالة من اليأس؛ بعضهم هاجـر، وبعضهم استسلم، بينما لا يزال البعض يحاول رغـم أن الأبواب تبدو موصدة. السؤال الذي يبقى معلقًـتا: من أغلق هذه الأبواب؟ ولماذا لم تُفتح مجددًا؟
بقلم خولة ڨريرة