صباح الخير يا تونس …عمر الوسلاتي

بقلم عمر الوسلاتي

صباح الخير يا تونس… من قليبية
أسسها الفينيقيون في القرن التاسع قبل الميلاد، فكانت نقطة مضيئة على أطراف الوطن القبلي، ثم مرّت بها القرطاجية والبيزنطية والأغلبية والزيرية والحفصية والعثمانية، حتى غدت قلعتها – برج قليبية – شاهداً من حجارة على تعاقب الحضارات. هذا البرج، الذي أقيم على رأس صخري يطل من الشمال الشرقي لرأس بون، ظل دائماً جزءاً من روح المدينة، يراقب البحر ويتحاور مع الأفق.
في العهد القرطاجي، صمدت قليبية في وجه هجمات الرومان خلال الحربين البونيقيتين الثانية والثالثة. وفي العهد البيزنطي، أعيد بناء القلعة في القرن السادس، قبل أن يشيّد الأغالبة برجها في القرن التاسع. تعاقبت بعد ذلك إصلاحات بني زيري والحفصيين، ثم جاء العثمانيون ليعززوا تحصيناتها في القرنين السادس عشر والتاسع عشر. حتى الفرنسيون تركوا بصمتهم في القرن التاسع عشر، قبل أن تشهد احتلالاً إيطالياً وألمانياً في الحرب العالمية الثانية.
اليوم، صيف 2025، جلست في مقهى الدكان، حيث الظلال الوارفة وحديث الأصدقاء، وصوت البحر يأتي من بعيد، كأنه يذكّر بأن قليبية لم تكن يوماً مدينة عادية. هنا، في الزهراء والفتحة، وبحر الهوارية، وجبال تطل على إيطاليا، تتكون أحلام الشباب… أحلام عبور البحر. كم هو غريب أن يتحول الجمال إلى دافع للمغادرة، وأن يغري البحر بحياة أخرى خلف الأفق، حتى لو كان الثمن الموت على موجه.
في صباحات قليبية، يمتزج لون البحر الأزرق العميق برائحة السمك الطازج في سوق الميناء، حيث تعود القوارب الصغيرة مثقلة بصيد الفجر، ووجوه البحارة تحكي قصص ليل طويل على الموج. في الأزقة القريبة، تتعانق ألوان الجدران البيضاء مع النوافذ الزرقاء المزخرفة، فيما تتدلى أزهار الجهنمية على الشرفات، تضيف للمشهد مسحة بهجة. المقاهي تفيض بأحاديث الصيادين، ورائحة القهوة العربية تتسلل مع نسمات البحر، أما الباعة فيعرضون فاكهة الموسم: تين أخضر، وبطيخ أحمر كالنهار، وعناقيد عنب من كروم الوطن القبلي. كل شيء هنا يشبه لوحة حيّة، تتغير ألوانها مع الشمس، لكن يظل إطارها ثابتاً… البحر والبرج والناس.
أما الاستثمار والبنية التحتية، فهما في انحدار، كأن الزمن لا يريد أن يجاري روعة المكان. ومع ذلك، تبقى قليبية، ببرجها اليوناني الأصل، وواجهتها الفينيقية، ونبضها الإنساني، مدينة تمنح زائرها مساحة للتأمل، وتدعوه ليقرأ تاريخها من حجارتها، ومن رائحة البحر الذي لا يشيخ.
وربما، كما قاومت قليبية على مدى قرون عواصف البحر وغزوات البر، ستقاوم اليوم عواصف النسيان والإهمال. فهذه المدينة ليست مجرد حجارة أو ميناء أو شاطئ… هي ذاكرة تمشي على الأرض، تنتظر من يكتب فصولها القادمة بحب ووعي، لا بتركها لمهب الريح. وإذا كان البحر أمامها قد شهد رحلات الرحيل، فقد يشهد غداً رحلات عودة، حين يختار أبناؤها أن يصنعوا المستقبل هنا، حيث بدأ الحلم أول مرة.