سجنُ الشباب… حين تتحوّل العدالة إلى مرآةٍ تعكس شروخَ المجتمع

سجنُ الشباب… حين تتحوّل العدالة إلى مرآةٍ تعكس شروخَ المجتمع
في كل مرة نختار فيها معاقبة شبابنا بدل احتضانهم، نضع حجرًا جديدًا في جدارٍ قال عنه ألبير كامو: «أسوأ الآلام هي تلك التي نصنعها بأيدينا.» شبابٌ بين الثامنة عشرة والخامسة والثلاثين، في ذروة الأمل والاندفاع، يُعاملون كخطر دائم لا كطاقة بنّاءة تبحث عن فرصة لتتشكل. وهكذا تتحوّل منظومتنا القانونية، شيئًا فشيئًا، إلى ماكينة لإنتاج الضياع لا فرص المستقبل.بدأت الحكاية مع قوانين المخدرات التي حطّمت مصائر الآلاف، ثم مع العقوبات القاسية على الغش في الامتحانات، وصولًا إلى موجة السجون المكتظة اليوم. أصبح السجنُ هو الردّ السريع، السهل، والكسول، وكأن «الحرمان من الحرية» ليس آخر الدواء، بل أول ما يُستعمل. لكن كامو يحذّر: «ليس هناك عدلٌ مطلق، بل هناك محاولات بشرية لتجنّب الظلم.» ونحن، بكل صراحة، لم نعد نتجنّب الظلم… بل نصنعه أحيانًا بلا وعي.العقوبات المبالغ فيها على جنح لا تهدد النظام العام بجدية، وتجاهل الضمانات الدستورية التي يكرّسها الفصل 55، ليست سوى وصفة جاهزة لإنتاج جيلٍ مهزوم. حين يصبح السجن إجابةً لا تُناقش، فإننا لا نردع، بل نُدرّب. نُدرّب على الكراهية، على اللامبالاة، وعلى العود.والمجتمع يدفع الثمن مضاعفًا: موارد تُهدر على المحاكمات، وسجون تلتهم الميزانيات، وطاقة بشرية تُدفن في الزنازين بدل أن تُستثمر حيث يجب. الردع الحقيقي لا يكون بإغلاق الأبواب، بل بفتحها أمام التعليم والعمل والخيارات. فكما يقول كامو: «الحرية هي فرصةٌ لتكون أفضل مما نحن عليه.» ونحن، بكل أسف، نحرم شبابنا من هذه الفرصة.وأنا أتابع خلال الأيام الأخيرة إطلاق سراح التلميذ في الكاف، والطالب في الطب، والهوايدي… وأشاهد في المقابل متهمًا بعملٍ موحش يُدان قبل أن يُحاكم، وآخر محكومًا بالإعدام ينعم بعفو خاص يمنعه من المشنقة، يتملكني شعورٌبأن العدالة نفسها أصبحت مرتبكة، فاقدةً بوصلتها. معاييرها تهتزّ، قيمها تتضارب، وصورتها تتشقق.المؤلم أننا نفرح اليوم بكل إطلاق سراح وكأنه حدث استثنائي، لا حق طبيعي. نفرح كما لو أننا ننتزع الحياة من بين أنياب قدرٍ أسود. وكما يقول كامو في واحدة من أكثر عباراته قسوة وصدقًا:«أسوأ ما يمكن أن يحدث لشعبٍ ما هو أن يغدو الظلم أمرًا اعتياديًا.»وأخشى أننا بدأنا نعتاد.لسنا أمام أزمة شباب فقط، بل أمام أزمة عدالة… وأزمة معنى.وإذا واصلنا هذا النهج، سنكتشف أن أكبر خطيئة لم تكن ما فعله الشباب، بل ما فعلناه نحن بهم حين سمحنا للخوف أن يكتب القوانين، ولليأس أن يمسك بميزان العدالة، وللظلم أن يصبح أمرًا عاديًا لا يثير سوى تنهيدة عابرة.
بقلم عمر الوسلاتي