في تونس، كما في غيرها من الديمقراطيات المتعثّرة، لم تعد بعض المنابر الإعلامية صوت الحقيقة، بل صارت مختبرًا لتزييفها. كثيرون ممن يسمّون أنفسهم “صحافيين” أو “محلّلين” صاروا أشبه بالمقاولين في سوق الكلام، يبيعون المواقف كما تُباع الإعلانات، ويصنعون رأيًا عامًا على مقاس الممول أو الحزب أو المزاج الشعبي المتقلّب.هؤلاء لا يدافعون عن الحقيقة، بل عن مواقعهم.يتحدثون باسم “الجمهور” ليتخفّوا وراءه، ويبرّرون كل انحراف بالقول: “الناس هكا تحب”.
وهكذا يتحوّل الرأي العام إلى ذريعة لتبرير الرداءة، وتتحوّل الحرية إلى فوضى لغوية لا ضوابط لها، فيها يغيب المعنى وتُدفن القيم.في تونس اليوم، يتسابق بعض الصحافيين على كسب الظهور بدل كسب المصداقية.في برامج “الحوارات” التي لا حوار فيها، وفي نشرات “الأخبار” التي لا خبر فيها، يتحوّل كل شيء إلى عرضٍ استعراضيّ، حيث الصوت الأعلى ينتصر على الفكرة الأعمق، وحيث التهريج يزاحم التحليل.
لقد فقد الإعلام في جزءٍ كبير منه قدرته على مساءلة السلطة، لأنه صار هو نفسه سلطةً بلا ضمير.
يتحدث بعضهم عن “الاستقلالية”، لكنهم مرتبطون بخيوط المال والسياسة، يخافون من الحقيقة لأنها قد تزعج معلنًا أو تثير غضب مسؤولٍ نافذ.
الإعلام ليس مجرّد ناقلٍ للوقائع، بل صانعٌ للوعي.
وحين يصبح هذا الوعي مزيفًا، تنهار القيم الديمقراطية من الداخل.المغالطة اليوم لم تعد في تزوير الصور أو العناوين، بل في طمس المعنى وتقديم الوهم على أنه رأي، والسكوت على أنه حياد.نحن بحاجةٍ إلى صحافةٍ تُقلق ولا تُرضي، تُفكّر ولا تروج، تُنير الطريق لا تُصفّق.
فالحقّ لا يحتاج إلى جمهورٍ كي يكون حقًّا، والضمير لا يُقاس بعدد المتابعين.
بقلم عمر الوسلاتي

